فصل: تفسير الآية رقم (161):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (159):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [159].
{وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: ما أحد من أهل الكتاب يدرك نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، إلا ليؤمنن به قبل موته، أي: موت عيسى عليه السلام، أي: لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان يؤيد الله به دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل، إشارة إلى أن موسى عليه السلام، إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً، فالنبي الذي ينسخ شريعة موسى، وهو عيسى عليهما السلام، هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربيّ، في تجديد شريعته، وتمهيد أمره، والذود عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة، وأتباع مستكثرة، أمر قضاه الله تعالى في الأزل، فاقصروا أيها اليهود، فمعنى الآية إذن، والله أعلم: إنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه السلام على شك، إلا وهو يوقن بعيسى عليه السلام قبل موته، بعد نزوله من السماء، أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة، أفاده البقاعي.
روى البخاريّ عن أبي: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدلاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْراً لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}.
وأخرجه مسلم أيضاً وابن مردويه وزاد بعد قوله قبل موته: موت عيسى ابن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات.
ورواه الإمام أحمد عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيضاً مَرفوعاً وَلفظه: «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَمْحُو الصَّلِيبَ وَتُجْمَعُ لَهُ الصَّلاَةُ وَيُعْطَى الْمَالُ حَتَّى لاَ يُقْبَلَ وَيَضَعُ الْخَرَاجَ وَيَنْزِلُ الرَّوْحَاءَ فَيَحُجُّ مِنْهَا أَوْ يَعْتَمِرُ أَوْ يَجْمَعُهُمَا».
قَالَ: وَتَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} فَزَعَمَ حَنْظَلَةُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يُؤْمِنُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، فَلاَ أَدْرِي هَذَا كُلُّهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ شيء قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ.
ورواه حامد أيضاً عن عبد الرحمن عن أبي هريرة وفيه: «وَيُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الإِسْلاَمِ، وَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ».
وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم: «فينزل عند المنارة شرقي دِمشق».
وقد ذكر الحافظ ابن كثير، هنا الأَحَادِيث المُتَوَاتِرَة في نزوله عليه السلام وَسَلَّمَ، مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان بْن أَبِي الْعَاصِ وَأَبِي أُمَامَة وَالنَّوَّاس بْن سَمْعَان وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَمُجَمِّع بْن جَارِيَة وَأَبِي سَرِيحَة وَحُذَيْفَة بْن أُسَيْد رَضي الله عنهم، وَفِيهَا دِلَالَة عَلَى صِفَة نُزُوله وَمَكَانه مِنْ أَنَّهُ بِالشَّامِ بَلْ بِدِمَشْق عِنْد الْمَنَارَة الشَّرْقِيَّة، وَأَنَّ ذَلِكَ يَكُون عِنْد إِقَامَة صَلَاة الصُّبْح.
قَال ابن كَثير: وَقَدْ بُنِيَتْ فِي هَذِهِ الْأَعْصَار، فِي سَنَة إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعمِائَةِ، مَنَارَة لِلْجَامِعِ الْأُمَوِيّ بَيْضَاء مِنْ حِجَارَة مَنْحُوتَة عِوَضاً عَنْ الْمَنَارَة الَّتِي هُدِمَتْ بِسَبَبِ الْحَرِيق الْمَنْسُوب إِلَى صَنِيع النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه الْمُتَتَابِعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانَ أَكْثَر عِمَارَتهَا مِنْ أَمْوَالهمْ، وَقَوِيَتْ الظُّنُون أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يَنْزِل عَلَيْهَا الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِما السَّلَام، وَهَذَا إِخْبَار مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
قلت: وقد اشتهرت هذه المنارة بمئذنة عيسى.
وَذَكَرَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بْن عَسَاكِر فِي تَارِيخه عَنْ بَعْض السَّلَف أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، بَعدَ نزولهِ، يُدْفَن مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَته، فَاَللَّه أَعْلَم.
والتأويل المذكور في الآية رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير والعوفي، كلاهما عن ابن عباس.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس في الآية قال: يعني الْيَهُود خَاصَّة، وبه إلى الْحَسَن: يعني النجاشي وأصحابه.
وبه إليه قال: إِنَّ اللَّه رَفَعَ إِلَيْهِ عِيسَى وَهُوَ بَاعِثه قَبْل يَوْم الْقِيَامَة مَقَاماً يُؤْمِن بِهِ الْبَرّ وَالْفَاجر.
وكذا قال قَتَادَة وعبد الرحمن بن زَيْد بْن أَسْلَم وغير واحد.
قال ابن كثير: وهذا القول هو الحق.
وروي عن ابن عباس أيضاً ومحمد بن الحنفية ومجاهد وعكرمة ومحمد بن سيرين والضحاك وجُوَيْبِر، أن المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت ذلك الكتابيّ عند الغرغرة، حين لا ينفعه الإيمان، ذهاباً إلى أنه إذا عاين عَلِمَ الحق من الباطل، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.
قال عِكْرِمَة: قال ابن عباس: لا يموت اليهوديّ حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، ولو عجل بالسلاح.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟
قلت: فائدته الوعيد، وليكون علمهم بأنهم لابد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة، وأن ذلك لا ينفعهم- بعثاً لهم وتنبيهاً على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع به، وليكون إلزاماً للحجة لهم انتهى.
قال الأصبهانيُّ: ويدل على صحة هذا التأويل قراءة أُبَيّ بْن كَعْب رَضِي اللّهُ عَنْهُ: {إلا ليؤَمُننَّ به قبل موتهم} بضم النون وإلحاق ميم الجمع.
والأسانيد إلى ابن عباس في هذا التأويل كلها صحيحة، كما قاله ابن كثير.
وثمة وجه آخر، وهو أن الضمير الأول: للنبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، والثاني: للكتابيّ. رواه ابن جرير: عن عِكْرِمَة قال: لَا يَمُوت النَّصْرَانِيّ وَلَا الْيَهُودِيّ حَتَّى يُؤْمِن بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلا الآية.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب، بعد نزول عيسى عليه السلام، إلا آمن به قبل موته أي: قبل موت عيسى عليه السلام.
قال ابن كثير: ولا شك أن الذي قاله ابن جرير هو الصحيح، لأنه المقصود من سياق الْآي، في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سَلَّمَ لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شُبِّهَ لهم فقتلوا الشَّبَه، وهم لا يَتَبَيَّنُونَ ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حيٌّ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مَسِيح الضَّلَالَة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية- يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف-.
فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم.
ثم قال: فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى: أن كل كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما السلام- فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى: في أول هذه السورة: {وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18]، وقال تعالى: {فَلما رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ} الآية.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} أي: عيسى عليه السلام: {عَلَيْهِمْ} أي: على أهل الكتاب: {شَهِيداً} أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، وبعد نزوله إلى الأرض.
قال قَتادة: يشهد عليهم أنه قد بلَّغهم الرسالة من الله، وأقرّ بعبوديته لله عز وجل، وهكذا كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ} إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116].

.تفسير الآية رقم (160):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَبِظُلم مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً} [160].
{فَبِظُلم} أي: بسبب ظلم عظيم، فالتنوين للتفخيم، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف عليه مما استحلوه، بعد أن حرمته التوراة.
{مّنَ الّذِينَ هَادُواْ} أي: تلبسوا باليهودية، وفيه تعظيم ظلمهم أيضاً، إذ صدر عنهم بعدما ادعوا أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق.
{حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍٍ أُحِلّتْ لَهُمْ} قال ابن كثير: هَذَا التَّحْرِيم قَدْ يَكُون قَدَرِيّاً، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّضَهُمْ لِأَنْ تَأَوَّلُوا فِي كِتَابهمْ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا أَشْيَاء كَانَتْ حَلَالاً لَهُمْ، فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسهمْ تَضْيِيقاً وَتَنَطُّعاً، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون شَرْعِيّاً، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة أَشْيَاء كَانَتْ حَلَالاً لَهُمْ قَبْل ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلّ الطَّعَام كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزَّل التَّوْرَاة قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ} [آل عِمْرَان: 93]، أي: ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، من لحوم الإبل وألبانها، ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال في سورة الأنعام: {وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]، أي: إنما حرمنا عليهم ذلك، لطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه.
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته بقوله تعالى: {وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ} أي: الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم: {كَثِيراً} أي: ناساً كثيراً، أو صَداً كثيراً، فهم صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقاً من الأنبياء، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.

.تفسير الآية رقم (161):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [161].
{وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} أي: في التوراة: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ} بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة.
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} أي: من اليهود المصرّين على الكفر، لا لمن تاب وآمن من بينهم: {عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً يخلص إلى قلوبهم.

.تفسير الآية رقم (162):

القول في تأويل قوله تعالى: {لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلم مِنْهُمْ وَالمؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالمقِيمينَ الصّلاَةَ وَالمؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالمؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} [162].
{لّكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلم مِنْهُمْ} أي: الثابتون في العلم المستبصرون فيه، كَعَبْد اللَّه بْن سَلَام رَضِيَ اللَّه عَنْهُ.
قال الرازي: الثابتون فيه، وهم في الحقيقة المستدلون، لأن المقلد يكون بحيث إذا شُكِّكَ يَشُكُّ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة، فالراسخون هم المستدلون.
{وَالمؤْمِنُونَ} أي: من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ بصحبة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ} من القرآن.
{وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك، وأنه صدق ما أنزل من قبلك، فلابد من الإيمان به أيضاً.
{وَالمقِيمينَ الصّلاَةَ} قال ابن كثير: هكذا هو في مصاحف الأئمة، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بْن كَعْب.
قال الزمخشري: ارتفاع {الراسخون} على الابتداء، و{يُؤْمِنُونَ} خبره و{وَالْمُقِيمِينَ} نصب على المدح، لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف. وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصْبِ على الاختصاص من الافتنان، وغبي عليه أن السابقين الأولين الذين مَثَلُهُمُ في التوراة ومَثَلُهُم في الإنجيل، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم.
وقيل: هو عطف على: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي: يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء.
وفي مصحف عبد الله {والمقيمون} بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدريّ وعيسى الثقفيّ.
وجوز عطف {المقيمين} على الضمير في {منهم} وعطفه على الضمير في و{إليك}، والكتاب أنزل للنبيّ ولأتباعه، قال تعالى: {يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ} [يونس: 57] كذا في حواشي الشذور، وقد أشار الزمخشري بقوله كانوا أبعد همة. إلى ردّ ما نقل، أن عثمان رَضِي اللّهُ عَنْهُ، لما فرغ من المصحف أتى به إليه، فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المُمْلي من هذيل والكاتب من قُريش، لم يوجد فيه هذا.
قال الحافظ السخاوي: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، لأن عثمان رَضِي اللّهُ عَنْهُ جُعَلَ للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاف قط، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟
وتأول قوم اللحن في كلامه- على تقدير صحته عنه- بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:
مَنْطِقٌ رائع وتلحن أحيا ** ناً، وخير الكلام ما كان لحنَا

أي: المراد به الرمز، بحذف بعض الحروف خطّاً، كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، كذا في عناية الراضي.
{وَالمؤْتُونَ الزّكَاةَ} رفعه بالعطف على: {الرّاسِخُونَ} أو على الضمير في: {يُؤْمِنُونَ} أو على أنه مبتدأ، والخبر: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} والوجوه المذكورة تجري في: {المقِيمينَ} على قراءة الرفع: {وَالمؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يعني: والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب، وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من اتباع الشرائع، لأنه المقصود في هذا المقام، لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم، وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه، فبيّن لهم ما يلزمهم ويجب عليهم.
{أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} يعني الجنة، لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
لطيفة:
في الآية وجوه من الإعراب، أحسنها ما اعتمده أبو السعود، من أن جملة: {أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} إلخ، خبر للمبتدأ الذي هو: {الرّاسِخُونَ} وما عطف عليه، وأن جملة: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ} إلخ حال من: {المؤْمِنُونَ} مبينة لكيفية إيمانهم، أو اعتراض مؤكد لما قبله.
قال: وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخرون بالأجر العظيم، كأنه قيل إِثْرَ قوله تعالى:: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجراً عظيماً، وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ} إلخ خبراً للمبتدأ، ففي كمال السداد، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين.